فصل: تَفْسِيرُ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تَفْسِيرُ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ ‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ‏}‏ يَا مُحَمَّدُ، ‏{‏قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا‏}‏، وَالَّتِي كَانَتْ تُجَادِلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَوْجِهَا امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي نَسَبِهَا وَاسْمِهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ اسْمُهَا خُوَيْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هِيَ خُوَيْلَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ‏.‏ وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هِيَ خُوَيْلَةُ بِنْتُ الصَّامِتِ‏.‏ وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هِيَ خُوَيْلَةُ بْنَةُ الدُّلَيْجِ وَكَانَتْ مُجَادَلَتُهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَوْجِهَا، وَزَوْجُهَا أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ، مُرَاجَعَتَهَا إِيَّاهُ فِي أَمْرِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ قَوْلِهِ لَهَا‏:‏ أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَمُحَاوَرَتِهَا إِيَّاهُ فِي ذَلِكَ، وَبِذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ، وَتَظَاهَرَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَالْآثَارِ الْوَارِدَةِ بِهِ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا دَاوُدُ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا الْعَالِيَةِ يَقُولُ‏:‏ «إِنَّ خُوَيْلَةَ بْنَةَ الدُّلَيْجِأَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَائِشَة تغْسِلُ شِقَّ رَأْسِهِ، فَقَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، طَالَتْ صُحْبَتِي مَعَ زَوْجِي، وَنَفَضْتُ لَهُ بَطْنِي، وَظَاهَرَ مِنِّي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ حُرِّمْتِ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ‏:‏ أَشْكُو إِلَى اللَّهِ فَاقَتِي، ثُمَّ قَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَالَتْ صُحْبَتِي، وَنَفَضْتُ لَهُ بَطْنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ حُرِّمْتِ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ إِذَا قَالَ لَهَا‏:‏ حُرِّمْتِ عَلَيْهِ، هَتَفَتْ وَقَالَتْ‏:‏ أَشْكُو إِلَى اللَّهِ فَاقَتِي، قَالَ‏:‏ فَنَزَلَ الْوَحْيُ، وَقَدْ قَامَتْ عَائِشَة تغْسِلُ شِقَّ رَأْسِهِ الْآخَرَ، فَأَوْمَأَتْ إِلَيْهَا عَائِشَة أنِ اسْكُتِي، قَالَتْ‏:‏ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ أَخَذَهُ مِثْلَ السُّبَاتِ، فَلَمَّا قُضِيَ الْوَحْيُ، قَالَ‏:‏ ادْعِي زَوْجَكِ، فَتَلَاهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا‏}‏‏:‏ أَيْ يَرْجِعُ فِيهِ ‏{‏فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا‏}‏‏:‏ أَتَسْتَطِيعُ رَقَبَةً‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا قَالَ‏:‏ ‏{‏فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ‏}‏ قَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي إِذَا لَمْ آكُلْ فِي الْيَوْمِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ خَشِيتُ أَنْ يَعْشُوَ بَصَرِي قَالَ‏:‏ ‏{‏فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا‏}‏ قَالَ‏:‏ أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا أَنْ تُعِينَنِي، فَأَعَانَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَطْعَمَ»‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ‏:‏ ذُكِرَ لَنَا أَنَّخُوَيْلَةَ بْنَةَ ثَعْلَبَةَ، وَكَانَ زَوْجُهَا أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ قَدْ ظَاهَرَ مِنْهَا، فَجَاءَتْ تَشْتَكِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ‏:‏ ظَاهَرَ مِنِّي زَوْجِي حِينَ كَبِرَ سِنِّي، وَرَقَّ عَظْمِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا مَا تَسْمَعُونَ ‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ‏}‏، فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ ‏{‏لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا‏}‏ يُرِيدُ أَنْ يَغْشَى بَعْدَ قَوْلِهِ ذَلِكَ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُحَرِّرَ مُحَرَّرًا‏؟‏ قَالَ‏:‏ مَالِي بِذَلِكَ يَدَانِ، أَوْ قَالَ‏:‏ لَا أَجِدُ، قَالَ‏:‏ أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا وَاللَّهِ إِنَّهُ إِذَا أَخْطَأَهُ الْمَأْكَلُ كُلَّ يَوْمٍ مِرَارًا يَكِلُّ بَصَرُهُ، قَالَ‏:‏ أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا وَاللَّهِ، إِلَّا أَنْ تُعِينَنِي مِنْكَ بِعَوْنٍ وَصَلَاةٍ‏.‏ قَالَ بِشْرٌ، قَالَ يَزِيدُ‏:‏ يَعْنِي دُعَاءً فَأَعَانَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، فَجَمَعَ اللَّهُ لَهُ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا‏}‏ قَالَ‏:‏ ذَاكَ أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ ظَاهَرَ مِنَ امْرَأَتِهِخُوَيْلَةَ بْنَةِ ثَعْلَبَةَقَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَبِرَ سِنِّي، وَرَقَّ عَظْمِي، وَظَاهَرَ مِنِّي زَوْجِي، قَالَ‏:‏ فَأَنْزَلَ اللَّهُ ‏{‏وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا‏}‏، يُرِيدُ أَنْ يَغْشَى بَعْدَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا‏}‏ فَدَعَاهُ إِلَيْهِ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ‏:‏ هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَعْتِقَ رَقَبَةً‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا قَالَ‏:‏ أَفَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ إِنَّهُ إِذَا أَخْطَأَهُ أَنْ يَأْكُلَ كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَكِلُّ بَصَرُهُ قَالَ‏:‏ أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا إِلَّا أَنْ يُعَيِّنَنِي فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَوْنٍ وَصَلَاةٍ، فَأَعَانَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، وَجَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ كَانَ الرَّجُلُ إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ‏:‏ أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي حُرِّمَتْ فِي الْإِسْلَامِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ ظَاهَرَ فِي الْإِسْلَامِ أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ، وَكَانَتْ تَحْتَهُ ابْنَةُ عَمٍّ لَهُ، يُقَالُ لَهَاخُوَيْلَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَظَاهَرَ مِنْهَا، فَأُسْقِطَ فِي يَدَيْهِ، وَقَالَ‏:‏ مَا أَرَاكِ إِلَّا قَدْ حُرِّمْتِ عَلَيَّ، وَقَالَتْ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، قَالَ‏:‏ فَانْطَلِقِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ‏:‏ فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَتْ عِنْدَهُ مَاشِطَةً تُمَشِّطُ رَأْسَهُ، فَأَخْبَرَتْهُ، فَقَالَ‏:‏ يَاخُوَيْلَةُمَا أُمِرْنَا فِي أَمْرِكِ بِشَيْءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ‏:‏ يَاخُوَيْلَةُأَبْشِرِي، قَالَتْ‏:‏ خَيْرًا، قَالَ‏:‏ فَقَرَأَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا‏}‏ قَالَتْ‏:‏ وَأَيُّ رَقَبَةٍ لَنَا‏؟‏ ‏!‏، وَاللَّهِ مَا يَجِدُ رَقَبَةً غَيْرِي، قَالَ‏:‏ ‏{‏فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ‏}‏، قَالَتْ‏:‏ وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّهُ يَشْرَبُ فِي الْيَوْمِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَذَهَبَ بَصَرُهُ، قَالَ‏:‏ ‏{‏فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا‏}‏، قَالَتْ‏:‏ مَنْ أَيْنَ‏؟‏ مَا هِيَ إِلَّا أُكْلَةٌ إِلَى مِثْلِهَا، قَالَ‏:‏ فَرَعَاهُ بِشَطْرِ وَسْقٍ ثَلَاثِينَ صَاعًا، وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا، فَقَالَ‏:‏ لِيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَلِيُرَاجِعْكِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا‏}‏، وَذَلِك أَنَّخَوْلَةَ بِنْتَ الصَّامِتِ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِظَاهَرَ مِنْهَا زَوْجُهَا، فَقَالَ‏:‏ أَنْتَ عَلَيَّ مِثْلُ ظَهْرِ أُمِّي، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ‏:‏ إِنَّ زَوْجِي كَانَ تَزَوَّجَنِي، وَأَنَا أَحَبُّ، حَتَّى إِذَا كَبِرْتُ وَدَخَلْتُ فِي السِّنِّ، قَالَ‏:‏ أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ ظَهْرِ أُمِّي، فَتَرَكَنِي إِلَى غَيْرِ أَحَدٍ، فَإِنْ كُنْتَ تَجِدُ لِي رُخْصَةً يَا رَسُولَ اللَّهِ تَنْعَشُنِي وَإِيَّاهُ بِهَا فَحَدِّثْنِي بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مَا أُمِرْتُ فِي شَأْنِكِ بِشَيْءٍ حَتَّى الْآنَ، وَلَكِنِ ارْجِعِي إِلَى بَيْتِكِ، فَإِنْ أُومَرْ بِشَيْءٍ لَا أَغْمِمْهُ عَلَيْكِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَرَجَعَتْ إِلَى بَيْتِهَا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكِتَابِ رُخْصَتَهَا وَرُخْصَةَ زَوْجِهَا ‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏)‏، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى زَوْجِهَا فَلَمَّا أَتَاهُ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مَا أَرَدْتَ إِلَى يَمِينِكَ الَّتِي أَقْسَمْتَ عَلَيْهَا‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ وَهَلْ لَهَا كَفَّارَةٌ‏؟‏ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُعْتِقَ رَقَبَهً‏؟‏ ‏"‏قَالَ‏:‏ إِذًا يَذْهَبَ مَالِي كُلُّهُ، الرَّقَبَةُ غَالِيَةٌ وَأَنَا قَلِيلُ الْمَالِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا وَاللَّهِ، لَوْلَا أَنِّي آكُلُ فِي الْيَوْمِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَكَلَّ بَصَرِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا‏؟‏ ‏"‏ قَالَ‏:‏ لَا وَاللَّهِ، إِلَّا أَنْ تُعِينَنِي عَلَى ذَلِكَ بِعَوْنٍ وَصَلَاةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إِنِّي مُعِينُكَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، وَأَنَا دَاعٍ لَكَ بِالْبَرَكَةِ، فَأَصْلَحَ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا‏.‏

قَالَ‏:‏ وَجَعَلَ فِيهِ تَحْرِيرَ رَقَبَةً لِمَنْ كَانَ مُوسِرًا، لَا يُكَفِّرُ عَنْهُ إِلَّا تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ إِذَا كَانَ مُوسِرًا، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوسِرًا فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، لَا يَصْلُحُ لَهُ إِلَّا الصَّوْمُ إِذَا كَانَ مُعْسِرًا، إِلَّا أَنْ لَا يَسْتَطِيعَ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَذَلِكَ كُلُّهُ قَبْلَ الْجِمَاعِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ الْمَدَنِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ‏:‏ «كَانَتْ‏"‏ خَوْلَةُ بْنَةُ ثَعْلَبَةَتَحْتَ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ، وَكَانَ رَجُلًا بِهِ لَمَمٌ، فَقَالَ فِي بَعْضِ هُجْرَاتِهِ أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، ثُمَّ نَدِمَ عَلَى مَا قَالَ، فَقَالَ لَهَا‏:‏ مَا أَظُنُّكَ إِلَّا قَدْ حُرِّمْتِ عَلَيَّ، قَالَتْ‏:‏ لَا تَقُلْ ذَلِكَ، فَوَاللَّهِ مَا أَحَبَّ اللَّهُ طَلَاقًا‏.‏ قَالَتْ‏:‏ ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلْهُ، فَقَالَ‏:‏ إِنِّي أَجِدُنِي أَسْتَحِي مِنْهُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْ هَذَا، فَقَالَتْ‏:‏ فَدَعْنِي أَنْ أَسْأَلَهُ، فَقَالَ لَهَا‏:‏ سَلِيهِ فَجَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ‏:‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ أَبُو وَلَدِي، وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، قَدْ قَالَ كَلِمَةً، وَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مَا ذَكَرَ طَلَاقًا، قَالَ‏:‏ أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مَا أَرَاكِ إِلَّا قَدْ حُرِّمْتِ عَلَيْهِ، قَالَتْ‏:‏ لَا تَقُلْ ذَلِكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا ذَكَرَ طَلَاقًا، فَرَادَّتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِرَارًا، ثُمَّ قَالَتْ‏:‏ اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو الْيَوْمَ شِدَّةَ حَالِي وَوَحْدَتِي، وَمَا يَشُقُّ عَلَيَّ مِنْ فِرَاقِهِ، اللَّهُمَّ فَأَنْزِلْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكَ، فَلَمْ تَرِمْ مَكَانَهَا، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ ‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ‏}‏، إِلَى أَنْ ذَكَرَ الْكَفَّارَاتِ، فَدَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ‏:‏ أَعْتِقْ رَقَبَةً، فَقَالَ‏:‏ لَا أَجِدُ، فَقَالَ‏:‏ صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ‏:‏ لَا أَسْتَطِيعُ، إِنِّي لَأَصُومُ الْيَوْمَ الْوَاحِدَ فَيَشُقُّ عَلَيَّ قَالَ‏:‏ أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا، قَالَ‏:‏ أَمَّا هَذَا فَنَعَمْ ‏"‏»‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ «نَزَلَتْ فِي امْرَأَةٍ اسْمُهَاخَوْلَةُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ‏:‏ اسْمُهَاخُوَيْلَةُ بْنَةُ ثَعْلَبَةَ، وَزَوْجُهَا أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ جَاءَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ‏:‏ إِنَّ زَوْجَهَا جَعَلَهَا عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمِّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏"‏مَا أَرَاكِ إِلَّا قَدْ حُرِّمْتِ عَلَيْهِ، وَهُوَ حِينَئِذٍ يُغْسَلُ رَأْسَهُ، فَقَالَتْ‏:‏ انْظُرْ جُعِلْتُ فَدَاكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَقَالَ‏:‏ مَا أَرَاكِ إِلَّا قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ‏:‏ انْظُرْ فِي شَأْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَجَعَلَتْ تُجَادِلُهُ، ثُمَّ حَوَّلَ رَأْسَهُ لِيَغْسِلَهُ، فَتَحَوَّلَتْ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَقَالَتْ‏:‏ انْظُرْ جَعَلَنِي اللَّهُ فَدَاكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَقَالَتِ الْغَاسِلَةُ‏:‏ أَقْصَرِي حَدِيثَكِ وَمُخَاطَبَتَكِ يَاخُوَيْلَةُ، أَمَا تَرَيْنَ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَرَبِّدًا لِيُوحَى إِلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏، حَتَّى بَلَغَ ‏{‏ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا‏}‏»، قَالَ قَتَادَةُ‏:‏ فَحَرَّمَهَا، ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَعُودَ لَهَا فَيَطَأَهَا، ‏{‏فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏، حَتَّى بَلَغَ‏:‏ ‏(‏بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏)‏‏.‏ قَالَ أَيُّوبَ‏:‏ أَحْسَبُهُ ذَكَرَهُ عَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ‏:‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا أَجِدُ رَقَبَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏ مَا أَنَا بِزَائِدِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ‏:‏ ‏{‏فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا‏}‏، فَقَالَ‏:‏ وَاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا أُطِيقُ الصَّوْمَ، إِنِّي إِذَا لَمْ آكُلْ فِي الْيَوْمِ كَذَا وَكَذَا أَكَلَةً لَقِيتُ وَلَقِيتُ، فَجَعَلَ يَشْكُو إِلَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ مَا أَنَا بِزَائِدِكَ، فَنَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏{‏الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ تُجَادِلُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهِيَ تَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ عِنْدَ كِبَرِهِ وَكِبَرِهَا، حَتَّى انْتَفَضَ وَانْتَفَضَ رَحِمُهَا‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ مُحَمَّدًا فِي زَوْجِهَا قَدْ ظَاهَرَ مِنْهَا، وَهِيَ تَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ ذَكَرَ سَائِرَ الْحَدِيثِ نَحْوَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبَانُ الْعَطَّارُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ‏:‏ كَتَبْتَ إِلَيَّ تَسْأَلُنِي عَنْخُوْيَلَةَ بْنَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ، وَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِابْنَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ، وَلَكِنَّهَا امْرَأَةُ أَوْسٍ، وَكَانَ أَوْسٌ امْرَأً بِهِ لَمَمٌ، وَكَانَ إِذَا اشْتَدَّ بِهِ لَمَمُهُ تَظَاهَرَ مِنْهَا، وَإِذَا ذَهَبَ عَنْهُ لَمَمُهُ لَمْ يُقَلْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْتَفْتِيهِ وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ مَا سَمِعْتَ، وَذَلِكَ شَأْنُهُمَا‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبِي، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ، يُحَدِّثُ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَتْنِيخُوَيْلَةُ امْرَأَةُ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِقَالَتْ‏:‏ «كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، تُعْنِي زَوْجَهَا، فَقَالَ‏:‏ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى نَادِي قَوْمِهِ، ثُمَّ رَجَعَ فَرَاوَدَنِي عَنْ نَفْسِي، فَقَالَتْ‏:‏ كَلَّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى يَنْتَهِيَ أَمْرِي وَأَمْرُكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقْضِيَ فِيَّ وَفِيكَ أَمْرَهُ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا رَقِيقًا، فَغَلَبَتْهُ بِمَا تَغْلِبُ بِهِ الْمَرْأَةُ الْقَوِيَّةُ الرَّجُلَ الضَّعِيفَ، ثُمَّ خَرَجَتْ إِلَى جَارَةٍ لَهَا، فَاسْتَعَارَتْ ثِيَابَهَا، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَلَسَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَذَكَرَتْ لَهُ أَمْرَهُ، فَمَا بَرِحَتْ حَتَّى أُنْزِلَ الْوَحْيُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَتْ‏:‏ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ‏:‏ إِنَّا سَنُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ بِفَرْقٍ مِنْ تَمْرٍ، قُلْتُ‏:‏ وَأَنَا أُعِينُهُ بِفَرْقٍ آخَرَ، فَأَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا»‏.‏

حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ تَمِيمٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَة قالَتْ‏:‏ «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ، لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ تَشْكُو زَوْجَهَا، مَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَى آخِرِ الْآيَة»‏.‏

حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ عُثْمَانَ الرَّمْلِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَحْيَى بْنُ عِيسَى، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَة، قَالَتْ‏:‏ «تَبَارَكَ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتِ كُلِّهَا، إِنَّ الْمَرْأَةَ لَتُنَاجِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْمَعُ بَعْضَ كَلَامِهَا، وَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضُ كَلَامِهَا، إِذْ أَنْزَلَ اللَّهُ ‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا‏}‏»‏)‏‏.‏

حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَسْعُودِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ، قَالَتْ عَائِشَة‏:‏ «تَبَارَكَ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ كُلَّ شَيْءٍ، إِنِّي لِأَسْمَعُ كَلَامَخَوْلَةَ بْنَةِ ثَعْلَبَةَ، وَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضُهُ، وَهِيَ تَشْتَكِي زَوْجَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ تَقُولُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلَ شَبَابِي، وَنَثَرْتُ لَهُ بَطْنِي، حَتَّى إِذَا كَبِرَ سِنِّي، وَانْقَطَعَ وَلَدِي، ظَاهَرَ مِنِّي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ، قَالَ‏:‏ فَمَا بَرِحَتْ حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَؤُلَاءِ الْآيَاتِ‏:‏ ‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا‏}‏» قَالَ‏:‏ زَوْجُهَا أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَة، قَالَتْ‏:‏ «الْحَمْدُ اللَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ، إِنَّخَوْلَةَتَشْتَكِي زَوْجَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَخْفَى عَلَيَّ أَحْيَانًا بَعْضُ مَا تَقُولُ، قَالَتْ‏:‏ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ‏}‏»‏.‏

حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَة، «أَنَّجَمِيلَةَكَانَتِ امْرَأَةَ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ، وَكَانَ امْرَأً بِهِ لَمَمٌ، وَكَانَ إِذَا اشْتَدَّ بِهِ لَمَمُهُ ظَاهَرَ مِنَ امْرَأَتِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آيَةَ الظِّهَار»‏.‏

حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بِشْرٍ الْقَرْقَسَانِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا خُصَيْفٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ كَانَ ظِهَارُ الْجَاهِلِيَّةِ طَلَاقًا، فَأَوَّلُ مَنْ ظَاهَرَ فِي الْإِسْلَامِ أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ، أَخُو عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مِنَ امْرَأَتِهِ الْخَزْرَجِيَّةِ، وَهِيَخَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَالِكٍفَلَمَّا ظَاهَرَ مِنْهَا حَسِبَتْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ طَلَاقًا، فَأَتَتْ بِهِ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَوْسًا ظَاهَرَ مِنِّي، وَإِنَّا إِنِ افْتَرَقْنَا هَلَكْنَا، وَقَدْ نَثَرْتُ بَطْنِي مِنْهُ، وَقَدُمَتْ صُحْبَتُهُ فَهِيَ تَشْكُو ذَلِكَ وَتَبْكِي، وَلَمْ يَكُنْ جَاءَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏)‏، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ‏:‏ أَتَقْدِرُ عَلَى رَقَبَةٍ تُعْتِقُهَا‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا، فَجَمَعَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَعْتَقَ عَنْهُ، ثُمَّ رَاجَعَ أَهْلَهُ‏.‏

وَذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ‏"‏ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُحَاوِرُكَ فِي زَوْجِهَا ‏"‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَتَشْتَكِي الْمُجَادِلَةُ مَا لَدَيْهَا مِنَ الْهَمِّ بِظِهَارِ زَوْجِهَا مِنْهَا إِلَى اللَّهِ، وَتَسْأَلُهُ الْفَرَجَ‏.‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا‏}‏ يَعْنِي‏:‏ تُحَاوِرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُجَادِلَةُ خَوْلَةُ بْنَةُ ثَعْلَبَةَ‏.‏ ‏(‏إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ‏)‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لِمَا يَتَجَاوَبَانِهِ وَيَتَحَاوَرَانِهِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ خَلْقِهِ، بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ وَيَعْمَلُ جَمِيعُ عِبَادِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ الَّذِينَ يُحَرِّمُونَ نِسَاءَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ تَحْرِيمَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ظُهُورُ أُمَّهَاتِهِمْ، فَيَقُولُونَ لَهُنَّ‏:‏ أَنْتُنَّ عَلَيْنَا كَظُهُورِ أُمَّهَاتِنَا، وَذَلِكَ كَانَ طَلَاقَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ‏.‏

كَذَلِكَ حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، قَالَ‏:‏ كَانَ الظِّهَارُ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، الَّذِي إِذَا تَكَلَّمَ بِهِ أَحَدُهُمْ لَمْ يَرْجِعْ فِي امْرَأَتِهِ أَبَدًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ مَا أَنْزَلَ‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ سِوَى نَافِعٍ، وَعَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ خَلَا عَاصِمٍ‏:‏ ‏"‏ يَظَّاهِرُونَ ‏"‏بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الظَّاءِ وَإِثْبَاتِ الْأَلِفِ، وَكَذَلِكَ قَرَءُوا الْأُخْرَى بِمَعْنَى يَتَظَاهَرُونَ، ثُمَّ أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الظَّاءِ فَصَارَتَا ظَاءًا مُشَدَّدَةً‏.‏ وَذُكِرَ أَنَّهَا فِي قِرَاءَةِ أُبَي‏"‏ يَتَظَاهَرُونَ ‏"‏، وَذَلِكَ تَصْحِيحٌ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَتَقْوِيَةٌ لَهَا‏.‏ وَقَرَأَ ذَلِكَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو كَذَلِكَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الظَّاءِ، غَيْرَ أَنَّهُمَا قَرَأَاهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ ‏"‏ يَظَّهَّرُونَ ‏"‏‏.‏ وَقَرَأَ ذَلِكَ عَاصِمٌ ‏(‏يُظَاهِرُونَ‏)‏ بِتَخْفِيفِ الظَّاءِ وَضَمِّ الْيَاءِ وَإِثْبَاتِ الْأَلِفِ‏.‏

وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ مُتَقَارِبَاتُ الْمَعَانِي‏.‏ ‏"‏يَظَّاهَرُون‏"‏ فَهُوَ مِنْ تَظَاهَرَ، فَهُوَ يَتَظَاهَرُ‏.‏ وَأَمَّا ‏"‏يَظَّهَّرُون‏"‏ فَهُوَ مِنْ تَظَهَّرَ فَهُوَ يَتَظَهَّرُ، ثُمَّ أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الظَّاءِ فَقِيلَ‏:‏ يَظَّهَرُ‏.‏ وَأَمَّا ‏(‏يُظَاهِرُونَ‏)‏ فَهُوَ مِنْ ظَاهَرَ يُظَاهِرُ، فَبِأَيَّةِ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الثَّلَاثِ قَرَأَ ذَلِكَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ‏)‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ مَا نِسَاؤُهُمُ اللَّائِي يُظَاهَرْنَ مِنْهُنَّ بِأُمَّهَاتِهِمْ، فَيَقُولُوا لَهُنَّ‏:‏ أَنْتُنَّ عَلَيْنَا كَظَهْرِ أُمَّهَاتِنَا، بَلْ هُنَّ لَهُمْ حَلَالٌ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ‏}‏‏:‏ لَا اللَّائِي قَالُوا لَهُنَّ ذَلِكَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا‏}‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَإِنَّ الرِّجَالَ لَيَقُولُونَ مُنْكِرًا مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي لَا تُعْرَفُ صِحَّتُهُ وَزُورًا‏:‏ يَعْنِي كَذِبًا‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا‏}‏ قَالَ‏:‏ الزُّورُ‏:‏ الْكَذِبُ، ‏{‏وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ‏}‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ لَذُو عَفْوٍ وَصَفْحٍ عَنْ ذُنُوبِ عِبَادِهِ إِذَا تَابُوا مِنْهَا وَأَنَابُوا، غَفُورٌ لَهُمْ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ عَلَيْهَا بَعْدَ التَّوْبَةِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏‏.‏

يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ لِنِسَائِهِمْ‏:‏ أَنْتُنَّ عَلَيْنَا كَظُهُورِ أُمَّهَاتِنَا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا‏}‏‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى الْعَوْدِ لِمَا قَالَ الْمَظَاهِرُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هُوَ الرُّجُوعُ فِي تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ زَوْجَتِهِ، الَّتِي كَانَتْ لَهُ حَلَالًا قَبْلَ تَظَاهُرِهِ، فَيُحِلُّهَا بَعْدَ تَحْرِيمِهِ إِيَّاهَا عَلَى نَفْسِهِ بِعَزْمِهِ عَلَى غِشْيَانِهَا وَوَطْئِهَا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا‏}‏ قَالَ‏:‏ يُرِيدُ أَنْ يَغْشَى بَعْدَ قَوْلِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا‏}‏ قَالَ‏:‏ حَرَّمَهَا، ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَعُودَ لَهَا فَيَطَأَهَا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ نَحْوَ هَذَا الْقَوْلِ، إِلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا‏:‏ إِمْسَاكُهُ إِيَّاهَا بَعْدَ تَظْهِيرِهِ مِنْهَا، وَتَرْكِهِ فِرَاقَهَا عَوْدٌ مِنْهُ لِمَا قَالَ، عَزَمَ عَلَى الْوَطْءِ أَوْ لَمْ يَعْزِمْ‏.‏ وَكَانَ أَبُو الْعَالِيَةِ يَقُولُ‏:‏ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏لِمَا قَالُوا‏)‏‏:‏ فِيمَا قَالُوا‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا دَاوُدُ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا الْعَالِيَةِ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا‏}‏‏:‏ أَيْ يَرْجِعُ فِيهِ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى‏:‏ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامٌ، فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا‏:‏ إِنَّا لَا نَفْعَلُهُ، فَيَفْعَلُونَهُ، هَذَا الظِّهَارُ يَقُولُ‏:‏ هِيَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ، فَإِذَا أَعْتَقَ رَقَبَةً، أَوْ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا، عَادَ لِمَا قَدْ قَالَ‏:‏ هُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ، يَفْعَلُهُ‏.‏ وَكَأَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ كَانَ يَرَى أَنَّ هَذَا مِنَ الْمُقَدَّمِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّأْخِيرُ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ ‏{‏ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا‏}‏ يَصْلُحُ فِيهَا فِي الْعَرَبِيَّةِ‏:‏ ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَى مَا قَالُوا، وَفِيمَا قَالُوا، يُرِيدُونَ النِّكَاحَ، يُرِيدُ‏:‏ يَرْجِعُونَ عَمَّا قَالُوا، وَفِي نَقْضِ مَا قَالُوا، قَالَ‏:‏ وَيَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ تَقُولَ‏:‏ إِنْ عَادَ لِمَا فَعَلَ، تُرِيدُ إِنْ فَعَلَ مَرَّةً أُخْرَى، وَيَجُوزُ إِنْ عَادَ لِمَا فَعَلَ‏:‏ إِنْ نَقَضَ مَا فَعَلَ، وَهُوَ كَمَا تَقُولُ‏:‏ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَكَ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ‏:‏ حَلَفَ لَا يَضْرِبُكَ، وَحَلَفَ لَيَضْرِبَنَّكَ‏.‏

وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ‏:‏ مَعْنَى اللَّامِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏لِمَا قَالُوا‏)‏ بِمَعْنَى إِلَى أَوْ فِي؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ ثُمَّ يَعُودُونَ لِنَقْضِ مَا قَالُوا مِنَ التَّحْرِيمِ فَيُحَلِّلُونَهُ، وَإِنْ قِيلَ مَعْنَاهُ‏:‏ ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَى تَحْلِيلِ مَا حَرَّمُوا، أَوْ فِي تَحْلِيلِ مَا حَرَّمُوا فَصَوَابٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ عَوْدٌ لَهُ، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ‏:‏ ثُمَّ يَعُودُونَ لِتَحْلِيلِ مَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَعَلَيْهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، يَعْنِي عِتْقَ رَقَبَةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُمَاسَّ الرَّجُلُ الْمَظَاهِرُ امْرَأَتَهُ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا أَوْ تَمَاسَّهُ‏.‏

وَاخْتُلِفَ فِي الْمَعْنِيِّ بِالْمَسِيسِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ نَظِيرَ اخْتِلَافِهِمْ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ‏}‏ وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ هُنَالِكَ‏.‏

وَسَنَذْكُرُ بَعْضَ مَا لَمْ نَذْكُرْهُ هُنَالِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا‏}‏ فَهُوَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ‏:‏ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ، فَلَيْسَ يُحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْرَبَهَا بِنِكَاحٍ وَلَا غَيْرِهِ حَتَّى يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ، ‏{‏فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا‏}‏ وَالْمَسُّ‏:‏ النِّكَاحُ، ‏{‏فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا‏}‏ وَإِنْ هُوَ قَالَ لَهَا‏:‏ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إِنْ فَعَلْتِ كَذَا وَكَذَا، فَلَيْسَ يَقَعُ فِي ذَلِكَ ظِهَارٌ حَتَّى يَحْنَثَ، فَإِنْ حَنِثَ فَلَا يَقْرَبْهَا حَتَّى يُكَفِّرَ، وَلَا يَقَعُ فِي الظِّهَارِ طَلَاقٌ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَشْعَثُ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يَغْشَى الْمَظَاهِرُ دُونَ الْفَرْجِ‏.‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا زَيْدٌ، قَالَ، قَالَ سُفْيَانُ‏:‏ إِنَّمَا الْمُظَاهَرَةُ عَنِ الْجِمَاعِ‏.‏ وَلَمْ يَرَ بَأْسًا أَنْ يَقْضِيَ حَاجَتَهُ دُونَ الْفَرْجِ أَوْ فَوْقَ الْفَرْجِ، أَوْ حَيْثُ يَشَاءُ، أَوْ يُبَاشِرُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ عُنِيَ بِذَلِكَ كُلُّ مَعَانِي الْمَسِيسِ، وَقَالُوا‏:‏ الْآيَةُ عَلَى الْعُمُومِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ يُونُسَ، قَالَ‏:‏ بَلَغَنِي عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَرِهَ لِلْمُظَاهِرِ الْمَسِيسَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ أَوْجَبَ رَبُّكُمْ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ عِظَةً لَكُمْ تَتَّعِظُونَ بِهِ، فَتَنْتَهُونَ عَنِ الظِّهَارِ وَقَوْلِ الزُّورِ‏.‏ ‏(‏وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏)‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَاللَّهُ بِأَعْمَالِكُمُ الَّتِي تَعْمَلُونَهَا أَيُّهَا النَّاسُ ذُو خِبْرَةٍ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا، وَهُوَ مُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا، فَانْتَهُوا عَنْ قَوْلِ الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ مِنْكُمْ مِمَّنْ ظَاهَرَ مِنَ امْرَأَتِهِ رَقَبَةً يُحَرِّرُهَا، فَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا وَالشَّهْرَانِ الْمُتَتَابِعَانِ هُمَا اللَّذَانِ لَا فَصْلَ بَيْنِهِمَا بِإِفْطَارٍ فِي نَهَارٍ شَيْءٍ مِنْهُمَا إِلَّا مِنْ عُذْرٍ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْإِفْطَارُ بِالْعُذْرِ فَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ إِذَا كَانَ إِفْطَارُهُ لِعُذْرٍ فَزَالَ الْعُذْرُ، بَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنَ الصَّوْمِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ يَسْتَأْنِفُ؛ لِأَنَّ مَنْ أَفْطَرَ بِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يُتَابِعْ صَوْمَ شَهْرَيْنِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ‏:‏ إِذَا أَفْطَرَ بِعُذْرٍ وَزَالَ الْعُذْرُ بَنَى وَكَانَ مُتَابِعًا‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ وَعَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ صَامَ مِنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، أَوْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَمَرِضَ فَأَفْطَرَ، أَوْ أَفْطَرَ مِنْ عُذْرٍ، قَالَ‏:‏ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ يَوْمًا مَكَانَ يَوْمٍ، وَلَا يَسْتَقْبِلَ صَوْمَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، بِمِثْلِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَحْيَى، عَنِ ابْنِ أَبِي عُرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي الْمَظَاهِرِ، الَّذِي عَلَيْهِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَصَامَ شَهْرًا، ثُمَّ أَفْطَرَ، قَالَ‏:‏ يُتِمُّ مَا بَقِيَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي رَجُلٍ صَامَ مِنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ شَهْرًا أَوْ أَكْثَرَ ثُمَّ مَرِضَ، قَالَ‏:‏ يَعْتَدُّ بِمَا مَضَى إِذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَالِمُ بْنُ نُوحٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عُمَرُ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فِي قَتْلٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ ظِهَارٍ، فَصَامَ بَعْضَهُ ثُمَّ أَفْطَرَ، قَالَ‏:‏ إِنْ كَانَ مَعْذُورًا فَإِنَّهُ يَقْضِي‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ هُشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ‏:‏ إِنْ أَفْطَرَ مِنْ عُذْرٍ أَتَمَّ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ اسْتَأْنَفَ‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ‏:‏ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَمَرِضَ فَأَفْطَرَ، قَالَ‏:‏ يَقْضِي مَا بَقِيَ عَلَيْهِ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ فِي الرَّجُلِ يُفْطِرُ فِي الْيَوْمِ الْغَيِّمِ، يَظُنُّ أَنَّ اللَّيْلَ قَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ، أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يُبْدِلَهُ، وَلَا يَسْتَأْنِفْ شَهْرَيْنِ آخَرَيْنِ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ‏:‏ إِنَّ جَامِعَ الْمُعْتَكِفُ، وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ أَيَّامٌ مِنَ اعْتِكَافِهِ، قَالَ‏:‏ يُتِمُّ مَا بَقِيَ، وَالْمَظَاهِرُ كَذَلِكَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ‏:‏ إِذَا كَانَ شَيْئًا ابْتُلِيَ بِهِ بَنَى عَلَى صَوْمِهِ، وَإِذَا كَانَ شَيْئًا هُوَ فَعَلَهُ اسْتَأْنَفَ، قَالَ‏:‏ سُفْيَانُ‏:‏ هَذَا مَعْنَاهُ‏.‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَامِرٍ فِي رَجُلٍ ظَاهَرَ، فَصَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إِلَّا يَوْمَيْنِ ثُمَّ مَرِضَ، قَالَ‏:‏ يُتِمُّ مَا بَقِيَ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الشَّعْبِيِّ بِنَحْوِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَيَعْقُوبُ قَالَا ثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي رَجُلٍ عَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَصَامَ فَمَرِضَ فَأَفْطَرَ، قَالَ‏:‏ يَقْضِي وَلَا يَسْتَأْنِفُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ‏:‏ يَسْتَقْبِلُ مَنْ أَفْطَرَ بِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي رَجُلٍ عَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَأَفْطَرَ، قَالَ‏:‏ يَسْتَأْنِفُ، وَالْمَرْأَةُ إِذَا حَاضَتْ فَأَفْطَرَتْ تَقْضِي‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ إِذَا مَرِضَ فَأَفْطَرَ اسْتَأْنَفَ، يَعْنِي مَنْ كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَمَرِضَ فَأَفْطَرَ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ‏:‏ يَسْتَأْنِفُ‏.‏

وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ يَبْنِي الْمُفْطِرُ بِعُذْرٍ، وَيَسْتَقْبِلُ الْمُفْطِرُ بِغَيْرِ عُذْرٍ، لِإِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا حَاضَتْ فِي صَوْمِهَا الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ بِعُذْرٍ، فَمِثْلُهُ؛ لِأَنَّ إِفْطَارَ الْحَائِضِ بِسَبَبِ حَيْضِهَا بِعُذْرٍ كَانَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، فَكُلُّ عُذْرٍ كَانَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ فَمِثْلُهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْهُمُ الصِّيَامَ فَعَلَيْهِ إِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الْإِطْعَامِ فِي الْكَفَّارَاتِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ هَذَا الَّذِي فَرَضْتُ عَلَى مَنْ ظَاهَرَ مِنْكُمْ، مَا فَرَضْتُ فِي حَالِ الْقُدْرَةِ عَلَى الرَّقَبَةِ، ثُمَّ خَفَّفْتُ عَنْهُ مَعَ الْعَجْزِ بِالصَّوْمِ، وَمَعَ فَقْدِ الِاسْتِطَاعَةِ عَلَى الصَّوْمِ بِالْإِطْعَامِ، وَإِنَّمَا فَعَلْتُهُ كَيْ تُقِرَّ النَّاسُ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ وَرِسَالَةِ الرَّسُولِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُصَدِّقُوا بِذَلِكَ، وَيَعْمَلُوا بِهِ، وَيَنْتَهُوا عَنْ قَوْلِ الزُّورِ وَالْكَذِبِ، ‏(‏وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ‏)‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَهَذِهِ الْحُدُودُ الَّتِي حَدَّهَا اللَّهُ لَكُمْ، وَالْفُرُوضُ الَّتِي بَيَّنَهَا لَكُمْ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَتَعَدَّوْهَا أَيُّهَا النَّاسُ، ‏(‏وَلِلْكَافِرِينَ‏)‏ بِهَا، وَهُمْ جَاحِدُو هَذِهِ الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا-مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ أَنْ تَكُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ-، ‏(‏عَذَابٌ أَلِيمٌ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ عَذَابٌ مُؤْلِمٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ إِنِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ اللَّهَ فِي حُدُودِهِ وَفَرَائِضِهِ، فَيَجْعَلُونَ حُدُودًا غَيْرَ حُدُودِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُحَادَّةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ‏.‏

وَأَمَّا قَتَادَةُ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي مَعْنَى ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ يُعَادُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ غِيظُوا وَأُخْزُوا كَمَا غِيظَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ حَادُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَخَزُوا‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ خَزُوا كَمَا خَزِيَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏.‏

وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ يَقُولُ‏:‏ مَعْنَى ‏(‏كُبِتُوا‏)‏‏:‏ أُهْلِكُوا‏.‏

وَقَالَ آخَرُ مِنْهُمْ‏:‏ يَقُولُ‏:‏ مَعْنَاهُ غِيظُوا وَأُخْزُوا يَوْمَ الْخَنْدَقِ، ‏{‏كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ يُرِيدُ مَنْ قَاتَلَ الْأَنْبِيَاءَ مِنْ قَبِلَهِمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَقَدْ أَنْزَلْنَا دَلَالَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ، وَعَلَامَاتٍ مُحْكَمَاتٍ تَدُلُّ عَلَى حَقَائِقِ حُدُودِ اللَّهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَلِجَاحِدِي تِلْكَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الَّتِي أَنْزَلْنَاهَا عَلَى رَسُولِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُنْكِرِيهَا عَذَابُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، مُهِينٌ‏:‏ يَعْنِي‏:‏ مُذِلٌّ فِي جَهَنَّمَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ فِي يَوْمِ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا، وَذَلِكَ ‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا‏}‏ مِنْ قُبُورِهِمْ لِمَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، ‏(‏فَيُنَبِّئُهُمْ‏)‏ اللَّهُ ‏{‏بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ‏}‏‏.‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ أَحْصَى اللَّهُ مَا عَمِلُوا، فَعَدَّهُ عَلَيْهِمْ، وَأَثْبَتَهُ وَحَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ عَامِلُوهُ‏.‏ ‏(‏وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏وَاللَّهُ‏)‏ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏(‏عَلَى كُلِّ شَيْءٍ‏)‏ عَمِلُوهُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ خَلْقِهِ ‏(‏شَهِيدٌ‏)‏ يَعْنِي‏:‏ شَاهِدٌ يَعْلَمُهُ وَيُحِيطُ بِهِ، فَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَلَمْ تَنْظُرْ يَا مُحَمَّدُ بِعَيْنِ قَلْبِكَ فَتَرَى ‏{‏أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ‏}‏ مِنْ شَيْءٍ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ صَغِيرُ ذَلِكَ وَكَبِيرُهُ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ فَكَيْفَ يَخْفَى عَلَى مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ أَعْمَالَ هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ وَعِصْيَانَهُمْ رَبَّهُمْ، ثُمَّ وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قُرْبَهُ مِنْ عِبَادِهِ وَسَمَاعَهُ نَجْوَاهُمْ، وَمَا يَكْتُمُونَهُ النَّاسَ مِنْ أَحَادِيثِهِمْ، فَيَتَحَدَّثُونَهُ سِرًّا بَيْنَهُمْ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ‏}‏ مِنْ خَلْقِهِ، ‏{‏إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ‏}‏، يَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَسْرَارِهِمْ، ‏{‏وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَلَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ كَذَلِكَ، ‏{‏وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَلَا أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ ‏(‏وَلَا أَكْثَرَ‏)‏ مِنْ خَمْسَةٍ، ‏{‏إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ‏}‏ إِذَا تَنَاجَوْا، ‏{‏أَيْنَ مَا كَانُوا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ وَمَكَانٍ كَانُوا‏.‏

وَعُنِيَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏هُوَ رَابِعُهُمْ‏}‏، بِمَعْنَى‏:‏ أَنَّهُ مُشَاهِدُهُمْ بِعِلْمِهِ، وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ‏.‏ كَمَا حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي نَصْرُ بْنُ مَيْمُونٍ الْمَضْرُوبُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا بُكَيْرُ بْنُ مَعْرُوفٍ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏هُوَ مَعَهُمْ‏)‏ قَالَ‏:‏ هُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَعِلْمُهُ مَعَهُمْ ‏{‏أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ثُمَّ يُخْبِرُ هَؤُلَاءِ الْمُتَنَاجِينَ وَغَيْرَهُمْ بِمَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، مِمَّا يُحِبُّهُ وَيَسْخَطُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏.‏ ‏(‏إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ بِنَجْوَاهُمْ وَأَسْرَارِهِمْ، وَسَرَائِرِ أَعْمَالِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمْ وَأُمُورِ عِبَادِهِ عَلِيمٌ‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ‏}‏، فَقَرَأَتْ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ ذَلِكَ ‏{‏مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى‏}‏ بِالْيَاءِ، خَلَا أَبِي جَعْفَرٍ الْقَارِئِ، فَإِنَّهُ قَرَأَهُ ‏"‏مَا تَكُون‏"‏ بِالتَّاءِ‏.‏ وَالْيَاءُ هِيَ الصَّوَابُ فِي ذَلِكَ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ عَلَيْهَا، وَلِصِحَّتِهَا فِي الْعَرَبِيَّةِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى‏}‏ مِنَ الْيَهُودِ، ‏(‏ثُمَّ يَعُودُونَ‏)‏، فَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِيَّاهُمْ عَنْهَا، وَيَتَنَاجَوْنَ بَيْنَهُمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى‏}‏ قَالَ‏:‏ الْيَهُودُ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ‏}‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى مَا نُهُوا عَنْهُ مِنَ النَّجْوَى، ‏{‏وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ‏}‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَيَتَنَاجَوْنَ بِمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْعُدْوَانِ- وَذَلِكَ خِلَافُ أَمْرِ اللَّهِ- وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَيَتَنَاجَوْنَ‏)‏ فَقَرَأَتْ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ ‏(‏وَيَتَنَاجَوْنَ‏)‏ عَلَى مِثَالِ يَتَفَاعَلُونَ، وَكَانَ يَحْيَى وَحَمْزَةُ وَالْأَعْمَشُ يَقْرَءُونَ ‏"‏وَيَنْتَجُون‏"‏ عَلَى مِثَالِ يَفْتَعِلُونَ‏.‏ وَاعْتَلَّ الَّذِينَ قَرَءُوهُ ‏(‏يَتَنَاجَوْنَ‏)‏ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏إِذَا تَنَاجَيْتُمْ‏)‏ وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ إِذَا انْتَجَيْتُمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ‏)‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ وَإِذَا جَاءَكَ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى، الَّذِينَ وَصَفَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ صِفَتَهُمْ، حَيَّوْكَ بِغَيْرِ التَّحِيَّةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لَكَ تَحِيَّةً، وَكَانَتْ تَحِيَّتُهُمُ الَّتِي كَانُوا يُحَيُّونَهُ بِهَا، الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ لَمْ يُحَيِّهِ بِهَا فِيمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ‏:‏ السَّامُ عَلَيْكَ‏.‏

ذِكْرُ الرِّوَايَةِ الْوَارِدَةِ بِذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ وَكِيعٍ قَالَا ثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَة قالَتْ‏:‏ «‏"‏ جَاءَ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا‏:‏ السَّامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَقُلْتُ‏:‏ السَّامُ عَلَيْكُمْ، وَفَعَلَ اللَّهُ بِكُمْ وَفَعَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ يَا عَائِشَة إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ، فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَسْتَ تَرَى مَا يَقُولُونَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏أَلَسْتِ تَرَيْنَنِي أَرُدُّ عَلَيْهِمْ مَا يَقُولُونَ‏؟‏ أَقُولُ‏:‏ عَلَيْكُم‏"‏ وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ نَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ‏}‏»‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَة قالَتْ‏:‏ ‏"‏ كَانَ الْيَهُودُ يَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُونَ‏:‏ السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَيَقُولُ‏:‏ عَلَيْكُمْ، قَالَتْ عَائِشَة‏:‏ السَّامُ عَلَيْكُمْ وَغَضَبُ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَاحِشَ الْمُتَفَحِّشَ ‏"‏، قَالَتْ‏:‏ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ‏:‏ السَّامُ عَلَيْكُمْ، قَالَ‏:‏ ‏"‏ إِنِّي أَقُولُ‏:‏ عَلَيْكُمْ ‏"‏، فَنَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ‏}‏ قَالَ‏:‏ فَإِنَّ الْيَهُودَ يَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُونَ‏:‏ السَّامُ عَلَيْكُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ ‏{‏وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ‏}‏ قَالَ‏:‏ كَانَتِ الْيَهُودُ يَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُونَ‏:‏ السَّامُ عَلَيْكُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَى ‏(‏فَبِئْسَ الْمَصِيرُ‏)‏ قَالَ‏:‏ كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَقُولُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَيَّوْهُ‏:‏ سَامٌ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ‏.‏

عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ‏}‏ قَالَ‏:‏ يَقُولُونَ‏:‏ سَامٌ عَلَيْكُمْ، قَالَ‏:‏ هُمْ أَيْضًا يَهُودُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْيَهُودُ كَانَتْ تَقُولُ‏:‏ سَامٌ عَلَيْكُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ عَائِشَة فطِنَتْ إِلَى قَوْلِهِمْ، فَقَالَتْ‏:‏ وَعَلَيْكُمُ السَّامَةُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏مَهْلًا يَا عَائِشَة إنِ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ ‏"‏، فَقَالَتْ‏:‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا يَقُولُونَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ أَفَلَمْ تَسْمَعِي مَا أَرُدُّ عَلَيْهِمْ‏؟‏ أَقُولُ‏:‏ عَلَيْكُمْ ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِك أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ مَعَ أَصْحَابِهِ، إِذْ أَتَى عَلَيْهِمْ يَهُودِيٌّ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَرَدُّوا عَلَيْهِ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏هَلْ تَدْرُونَ مَا قَالَ‏؟‏ ‏"‏ قَالُوا‏:‏ سَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ ‏"‏بَلْ قَالَ‏:‏ سَأْمٌ عَلَيْكُمْ، أَيْ تَسْأَمُونَ دِينَكُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏ أَقُلْتَ‏:‏ سَأَمٌ عَلَيْكُمْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏ إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكَ ‏"‏‏:‏ أَيْ عَلَيْكَ مَا قُلْتَ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ‏}‏ قَالَ‏:‏ «هَؤُلَاءِ يَهُودُ، جَاءَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِنْهُمْ إِلَى بَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتُنَاجَوْا سَاعَةً، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ أَحَدُهُمْ، فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ‏:‏ السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏ عَلَيْكَ ‏"‏، ثُمَّ الثَّانِي، ثُمَّ الثَّالِثُ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ السَّامُ‏:‏ الْمَوْتُ»‏.‏

وَقَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ‏}‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَيَقُولُ مُحَيُّوكَ بِهَذِهِ التَّحِيَّةِ مِنَ الْيَهُودِ‏:‏ هَلَّا يُعَاقِبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيُعَجِّلُ عُقُوبَتَهُ لَنَا عَلَى ذَلِكَ، يَقُولُ اللَّهُ‏:‏ حَسْبُ قَائِلِي ذَلِكَ يَا مُحَمَّدُ جَهَنَّمُ، وَكَفَاهُمْ بِهَا يَصِلُونَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَبِئْسَ الْمَصِيرُ جَهَنَّمُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ‏{‏إِذَا تَنَاجَيْتُمْ‏}‏ بَيْنَكُمْ، ‏{‏فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ‏}‏ وَلَكِنْ ‏{‏وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ‏}‏، يَعْنِي طَاعَةَ اللَّهِ، وَمَا يُقَرِّبُكُمْ مِنْهُ، ‏(‏وَالتَّقْوَى‏)‏ يَقُولُ‏:‏ وَبِاتِّقَائِهِ بِأَدَاءِ مَا كَلَّفَكُمْ مِنْ فَرَائِضِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ، ‏{‏وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَخَافُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ مَصِيرُكُمْ، وَعِنْدَهُ مُجْتَمَعُكُمْ فِي تَضْيِيعِ فَرَائِضِهِ، وَالتَّقَدُّمِ عَلَى مَعَاصِيهِ أَنْ يُعَاقِبَكُمْ عَلَيْهِ عِنْدَ مَصِيرِكُمْ إِلَيْهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ إِنَّمَا الْمُنَاجَاةُ مِنَ الشَّيْطَانِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيالنَّجْوَى الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهَا مِنَ الشَّيْطَانِ، أَيُّ ذَلِكَ هُوَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ عُنِيَ بِذَلِكَ مُنَاجَاةُ الْمُنَافِقِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏‏:‏ كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَتَنَاجَوْنَ بَيْنَهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ يَغِيظُ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَكْبُرُ عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْقُرْآنِ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الْآيَةُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏{‏إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ قَالَ‏:‏ كَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ الْحَاجَةَ، لِيَرَى النَّاسُ أَنَّهُ قَدْ نَاجَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ‏:‏ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ أَحَدٍ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَالْأَرْضُ يَوْمَئِذٍ حَرْبٌ عَلَى أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ، وَكَانَ إِبْلِيسُ يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَقُولُ لَهُمْ‏:‏ إِنَّمَا يَتَنَاجَوْنَ فِي أُمُورٍ قَدْ حَضَرَتْ، وَجُمُوعٍ قَدْ جُمِعَتْ لَكُمْ وَأَشْيَاءَ، فَقَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ‏:‏ كَانَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا رَأَوُا الْمُنَافِقِينَ خَلَوْا يَتَنَاجَوْنَ، يَشُقُّ عَلَيْهِمْ، فَنَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ عُنِيَ بِذَلِكَ أَحْلَامُ النَّوْمِ الَّتِي يَرَاهَا الْإِنْسَانُ فِي نَوْمِهِ فَتُحْزِنُهُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَحْيَى بْنُ دَاوُدَ الْبَلْخِيُّ، قَالَ‏:‏ سُئِلَ عَطِيَّةُ، وَأَنَا أَسْمَعُ الرُّؤْيَا، فَقَالَ‏:‏ الرُّؤْيَا عَلَى ثَلَاثِ مَنَازِلَ، فَمِنْهَا وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ‏}‏، وَمِنْهَا مَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِالنَّهَارِ فَيَرَاهُ بِاللَّيْلِ، وَمِنْهَا كَالْأَخْذِ بِالْيَدِ‏.‏

وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ عُنِيَ بِهِ مُنَاجَاةُ الْمُنَافِقِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ تَقَدَّمَ بِالنَّهْيِ عَنْهَا بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ‏}‏، ثُمَّ عَمَّا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَكْرُوهِ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَعَنْ سَبَبِ نَهْيِهِ إِيَّاهُمْ عَنْهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏، فَبَيَّنَ بِذَلِكَ، إِذْ كَانَ النَّهْيُ عَنْ رُؤْيَةِ الْمَرْءِ فِي مَنَامِهِ كَانَ كَذَلِكَ، وَكَانَ عَقِيبَ نَهْيِهِ عَنِ النَّجْوَى بِصِفَةِ أَنَّهُ مِنْ صِفَةِ مَا نَهَى عَنْهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَلَيْسَ التَّنَاجِي بِضَارِّ الْمُؤْمِنِينَ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، يَعْنِي بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ فِي أُمُورِهِمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ بِهِ، وَلَا يَحْزَنُوا مَنْ تَنَاجِي الْمُنَافِقِينَ وَمَنْ يَكِيدُهُمْ بِذَلِكَ، وَأَنَّ تَنَاجِيَهُمْ غَيْرُ ضَارِّهِمْ إِذَا حَفِظَهُمْ رَبُّهُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ‏{‏إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ‏}‏، يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ تَفَسَّحُوا‏:‏ تَوَسَّعُوا، مِنْ قَوْلِهِمْ مَكَانٌ فَسِيحٌ إِذَا كَانَ وَاسِعًا‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّفَسُّحِ فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ذَلِكَ كَانَ مَجْلِسَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ‏}‏ قَالَ‏:‏ مَجْلِسُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَالُ ذَاكَ خَاصَّةً‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الْآيَةَ، كَانُوا إِذَا رَأَوْا مَنْ جَاءَهُمْ مُقْبِلًا ضَنُّوا بِمَجْلِسِهِمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمْرَهُمْ أَنْ يُفْسِحَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ‏:‏ أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ‏}‏ قَالَ‏:‏ كَانَ هَذَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ حَوْلَهُ خَاصَّةً يَقُولُ‏:‏ اسْتَوْسِعُوا حَتَّى يُصِيبَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَجْلِسًا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ أَيْضًا مَقَاعِدُ لِلْقِتَالِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ‏}‏ قَالَ‏:‏ كَانَ النَّاسُ يَتَنَافَسُونَ فِي مَجْلِسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ لَهُمْ‏:‏ ‏{‏إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ هَذَا مَجْلِسُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي فَيَقُولُ‏:‏ افْسَحُوا لِي رَحِمَكُمُ اللَّهُ، فَيَضَنُّ كُلُّ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِقُرْبِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، وَرَأَى أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُمْ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ فِي مَجَالِسِ الْقِتَالِ إِذَا اصْطَفُّوا لِلْحَرْبِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِ الْقِتَالِ‏.‏

وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَفَسَّحُوا فِي الْمَجْلِسِ، وَلَمْ يُخَصِّصْ بِذَلِكَ مَجْلِسَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ مَجْلِسِ الْقِتَالِ، وَكِلَا الْمَوْضِعَيْنِ يُقَالُ لَهُ مَجْلِسٌ، فَذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْمَجَالِسِ مِنْ مَجَالِسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَجَالِسِ الْقِتَالِ‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ ‏"‏تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِس‏"‏ عَلَى التَّوْحِيدِ، غَيْرَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعَاصِمٍ، فَإِنَّهُمَا قَرَأَا ذَلِكَ ‏{‏فِي الْمَجَالِسِ‏}‏ عَلَى الْجِمَاعِ‏.‏ وَبِالتَّوْحِيدِ قِرَاءَةُ ذَلِكَ عِنْدَنَا لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏فَافْسَحُوا‏)‏ يَقُولُ‏:‏ فَوَسِّعُوا، ‏{‏يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ يُوَسِّعُ اللَّهُ مَنَازِلَكُمْ فِي الْجَنَّةِ، ‏{‏وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَإِذَا قِيلَ ارْتَفِعُوا، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِذَلِكَ‏:‏ وَإِذَا قِيلَ لَكُمْ قُومُوا إِلَى قِتَالِ عَدُوٍّ، أَوْ صَلَاةٍ، أَوْ عَمَلِ خَيْرٍ، أَوْ تَفَرَّقُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُومُوا‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا‏}‏ إِلَى ‏{‏وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ إِذَا قِيلَ‏:‏ انْشُزُوا فَانْشُزُوا إِلَى الْخَيْرِ وَالصَّلَاةِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏فَانْشُزُوا‏)‏ قَالَ‏:‏ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، قِتَالِ عَدُوٍّ، أَوْ أَمْرٍ بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ حَقٍّ مَا كَانَ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ إِذَا دُعِيتُمْ إِلَى خَيْرٍ فَأَجِيبُوا‏.‏ وَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ هَذَا كُلُّهُ فِي الْغَزْوِ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ‏:‏ ثَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا‏}‏‏:‏ كَانَ إِذَا نُودِيَ إِلَى الصَّلَاةِ تَثَاقَلَ رِجَالٌ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ أَنْ يَرْتَفِعُوا إِلَيْهَا، يَقُومُوا إِلَيْهَا‏.‏

وَحَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا‏}‏ قَالَ‏:‏ انْشُزُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ‏:‏ هَذَا فِي بَيْتِهِ إِذَا قِيلَ انْشُزُوا، فَارْتَفِعُوا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ لَهُ حَوَائِجَ، فَأَحَبَّ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا‏}‏‏.‏

وَإِنَّمَا اخْتَرْتُ التَّأْوِيلَ الَّذِي قُلْتُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ انْشُزُوا، أَنْ يَنْشُزُوا، فَعَمَّ بِذَلِكَ الْأَمْرِ جَمِيعَ مَعَانِي النُّشُوزِ مِنَ الْخَيْرَاتِ، فَذَلِكَ عَلَى عُمُومِهِ حَتَّى يَخُصَّهُ مَا يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ ‏(‏فَانْشُزُوا‏)‏ بِضَمِّ الشِّينِ، وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ بِكَسْرِهَا‏.‏

وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ، وَلُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ بِمَنْزِلَةِ يَعْكُفُونَ وَيَعْكِفُونَ، وَيَعْرُشُونَ وَيَعْرِشُونَ، فَبِأَيِّ الْقِرَاءَتَيْنِ قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ يَرْفَعِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ بِطَاعَتِهِمْ رَبَّهُمْ، فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ التَّفَسُّحِ فِي الْمَجْلِسِ إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَفَسَّحُوا، أَوْ بِنُشُوزِهِمْ إِلَى الْخَيْرَاتِ إِذَا قِيلَ لَهُمُ انْشُزُوا إِلَيْهَا، وَيَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، الَّذِينَ لَمْ يُؤْتَوُا الْعِلْمَ بِفَضْلِ عِلْمِهِمْ دَرَجَاتٍ، إِذَا عَمِلُوا بِمَا أُمِرُوا بِهِ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ‏}‏ إِنَّ بِالْعِلْمِ لِأَهْلِهِ فَضْلًا وَإِنَّ لَهُ عَلَى أَهْلِهِ حَقًّا، وَلَعَمْرِي لِلْحَقِّ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْعَالِمُ فَضْلٌ، وَاللَّهُ مُعْطِي كُلِّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ‏.‏

وَكَانَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ يَقُولُ‏:‏ فَضْلُ الْعِلْمِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ، وَخَيْرُ دِينِكُمُ الْوَرَعُ‏.‏

وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطَرِّفٍ يَقُولُ‏:‏ إِنَّكَ لَتَلْقَى الرَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَكْثَرُ صَوْمًا وَصَلَاةً وَصَدَقَةً، وَالْآخَرُ أَفْضَلُ مِنْهُ بَوْنًا بَعِيدًا، قِيلَ لَهُ‏:‏ وَكَيْفَ ذَاكَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ هُوَ أَشَدُّهُمَا وَرَعًا لِلَّهِ عَنْ مَحَارِمِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ‏}‏ فِي دِينِهِمْ إِذَا فَعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏)‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَاللَّهُ بِأَعْمَالِكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ذُو خِبْرَةٍ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْمُطِيعُ مِنْكُمْ رَبَّهُ مِنَ الْعَاصِي، وَهُوَ مُجَازٍ جَمِيعَكُمْ بِعَمَلِهِ الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءَ بِالَّذِي هُوَ أَهْلُهُ، أَوْ يَعْفُو‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، إِذَا نَاجَيْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ، فَقَدِّمُوا أَمَامَ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً تَتَصَدَّقُونَ بِهَا عَلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَالْحَاجَةِ، ‏{‏ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَتَقْدِيمُكُمُ الصَّدَقَةَ أَمَامَ نَجْوَاكُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ ‏(‏وَأَطْهَرُ‏)‏ لِقُلُوبِكُمْ مِنَ الْمَآثِمِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً‏}‏ قَالَ‏:‏ نُهُوا عَنْ مُنَاجَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَتَصَدَّقُوا، فَلَمْ يُنَاجِهِ إِلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدَّمَ دِينَارًا فَتَصَدَّقَ بِهِ، ثُمَّ أُنْزِلَتِ الرُّخْصَةُ فِي ذَلِكَ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْمُطَّلِبُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ، قَالَ عِلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ إِنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَآيَةً مَا عَمِلَ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي، وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِي‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً‏}‏ قَالَ‏:‏ فُرِضَتْ، ثُمَّ نُسِخَتْ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو أَسَامَةَ، عَنْ شِبْلِ بْنِ عَبَّادٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً‏}‏ قَالَ‏:‏ نُهُوا عَنْ مُنَاجَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَتَصَدَّقُوا، فَلَمْ يُنَاجِهِ إِلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَدَّمَ دِينَارًا صَدَقَةً تَصَدَّقَ بِهِ، ثُمَّ أُنْزِلَتِ الرُّخْصَةُ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ لَيْثًا، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ، قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَمْ يَعْمَلْ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي، وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِي، كَانَ عِنْدِي دِينَارٌ فَصَرَفْتُهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، فَكُنْتُ إِذَا جِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَصَدَّقْتُ بِدِرْهَمٍ، فَنُسِخَتْ، فَلَمْ يَعْمَلْ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً‏}‏ قَالَ‏:‏ «سَأَلَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ، فَوَعَظَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَكَانَ الرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ الْحَاجَةُ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْضِيَهَا، حَتَّى يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ صَدَقَةً، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الرُّخْصَةَ بَعْدَ ذَلِكَ ‏{‏فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏»‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً‏}‏ قَالَ‏:‏ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ مَا كَانَتْ إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَى ‏(‏فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏)‏ قَالَ‏:‏ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُقَدِّمُونَ بَيْنَ يَدَيِ النَّجْوَى صَدَقَةً، فَلَمَّا نَزَلَتِ الزَّكَاةُ نُسِخَ هَذَا‏.‏

حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً‏}‏، وَذَاكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرُوا الْمَسَائِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى شَقُّوا عَلَيْهِ، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْ نَبِيِّهِ فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ صَبَرَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَكَفُّوا عَنِ الْمَسْأَلَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ هَذَا ‏{‏فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ‏}‏، فَوَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُضَيِّقْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبَى الْمُغَيَّرَةِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَلْقَمَةَ الْأَنْمَارِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «‏"‏ مَا تَرَى‏؟‏ دِينَارٌ ‏"‏قَالَ‏:‏ لَا يُطِيقُونَ، قَالَ‏:‏ ‏"‏ نِصْفُ دِينَارٍ‏؟‏ ‏"‏قَالَ‏:‏ لَا يُطِيقُونَ قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَا تَرَى‏؟‏ ‏"‏قَالَ‏:‏ شُعَيْرَةُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏ إِنَّكَ لَزَهِيدٌ ‏"‏، قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ فَبِي خَفَّفَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، » وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً‏}‏، فَنَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً‏}‏‏:‏ لِئَلَّا يُنَاجِيَ أَهْلُ الْبَاطِلِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَشُقَّ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ، قَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَسْتَطِيعُ ذَلِكَ وَلَا نُطِيقُهُ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ‏}‏، وَقَالَ‏:‏ ‏{‏لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ‏}‏، مَنْ جَاءَ يُنَاجِيكَ فِي هَذَا فَاقْبَلْ مُنَاجَاتَهُ، وَمَنْ جَاءَ يُنَاجِيكَ فِي غَيْرِ هَذَا فَاقْطَعْ أَنْتَ ذَاكَ عَنْهُ لَا تُنَاجِهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ رُبَّمَا نَاجَوْا فِيمَا لَا حَاجَةَ لَهُمْ فِيهِ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ‏}‏ قَالَ‏:‏ لِأَنَّ الْخَبِيثَ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَا قَالَ فِي الْمُجَادَلَةِ‏:‏ ‏{‏إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏، فَنَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا‏)‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تَتَصَدَّقُونَ بِهِ أَمَامَ مُنَاجَاتِكُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ‏(‏فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ فَإِنَّ اللَّهَ ذُو عَفْوٍ عَنْ ذُنُوبِكُمْ إِذَا تُبْتُمْ مِنْهَا، رَحِيمٌ بِكُمْ أَنْ يُعَاقِبَكُمْ عَلَيْهَا بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَغَيْرُ مُؤَاخِذِكُمْ بِمُنَاجَاتِكُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ إِيَّاهُ صَدَقَةً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ أَشَقَّ عَلَيْكُمْ وَخَشِيتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِأَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَاتٍ الْفَاقَةَ، وَأَصْلُ الْإِشْفَاقِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ‏:‏ الْخَوْفُ وَالْحَذَرُ، وَمَعْنَاهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏:‏ أَخَشِيتُمْ بِتَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ الْفَاقَةَ وَالْفَقْرَ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏(‏أَأَشْفَقْتُمْ‏)‏ قَالَ‏:‏ شَقَّ عَلَيْكُمْ تَقْدِيمُ الصَّدَقَةِ، فَقَدْ وُضِعَتْ عَنْكُمْ، وَأُمِرُوا بِمُنَاجَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ صَدَقَةٍ حِينَ شَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ شِبْلِ بْنِ عَبَّادٍ الْمَكِّيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ‏}‏‏:‏ فَرِيضَتَانِ وَاجَبَتَانِ لَا رَجْعَةَ لِأَحَدٍ فِيهِمَا، فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَا كَانَ قَبْلَهَا مِنْ أَمْرِ الصَّدَقَةِ فِي النَّجْوَى‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَإِذْ لَمْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ، وَرَزَقَكُمُ اللَّهُ التَّوْبَةَ مِنْ تَرْكِكُمْ ذَلِكَ، فَأَدُّوا فَرَائِضَ اللَّهِ الَّتِي أَوْجَبَهَا عَلَيْكُمْ، وَلَمْ يَضَعْهَا عَنْكُمْ مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ، وَفِيمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ‏.‏

‏{‏وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَاللَّهُ ذُو خِبْرَةٍ وَعِلْمٍ بِأَعْمَالِكُمْ، وَهُوَ مُحْصِيهَا عَلَيْكُمْ لِيُجَازِيَكُمْ بِهَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَلَمْ تَنْظُرْ بِعَيْنِ قَلْبِكَ يَا مُحَمَّدُ، فَتَرَى إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ تَوَلَّوُا الْيَهُودَ وَنَاصَحُوهُمْ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ‏}‏ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالَ‏:‏ هُمُ الْمُنَافِقُونَ تَوَلَّوُا الْيَهُودَ وَنَاصَحُوهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ هُمُ الْيَهُودُ تَوَلَّاهُمُ الْمُنَافِقُونَ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ هَؤُلَاءِ كَفَرَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودُ وَالَّذِينَ تَوَلَّوْهُمُ الْمُنَافِقُونَ تَوَلَّوُا الْيَهُودَ، وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏}‏ حَتَّى بَلَغَ ‏(‏وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏)‏ لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَفْعَلُونَ وَقَالَ‏:‏ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا‏:‏ لَا نَدْعُ حُلَفَاءَنَا وَمُوَالِينَا يَكُونُوا مَعًا لِنُصْرَتِنَا وَعِزِّنَا، وَمَنْ يَدْفَعُ عَنَّا نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ‏}‏ حَتَّى بَلَغَ ‏{‏فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ‏}‏ وَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ ‏{‏أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ‏}‏ قَالَ‏:‏ لَا يَبْرُزُونَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مَا هُمْ مِنْكُمْ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ مَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَوَلَّوْا هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، مِنْكُمْ يَعْنِي‏:‏ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ وَمِلَّتِكُمْ، وَلَا مِنْهُمْ وَلَا هُمْ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِذَلِكَ مِنْكُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِأَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ إِذَا لَقُوا الْيَهُودَ، قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَهُمْ كَاذِبُونَ غَيْرُ مُصَدِّقِينَ بِهِ، وَلَا مُؤْمِنِينَ بِهِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏{‏وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ‏}‏ وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْهُمْ عَاتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَمْرٍ بَلَغَهُ عَنْهُ، فَحَلَفَ كَذِبًا‏.‏

ذِكْرُ الْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ بِذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «‏"‏ يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ يَنْظُرُ بِعَيْنِ شَيْطَانٍ، أَوْ بِعَيْنَيْ شَيْطَانٍ ‏"‏، قَالَ‏:‏ فَدَخَلَ رَجُلٌ أَزْرَقُ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ ‏"‏ عَلَامَ تَسُبُّنِي أَوْ تَشْتُمُنِي‏؟‏‏.‏ قَالَ‏:‏ فَجَعَلَ يَحْلِفُ، قَالَ‏:‏ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْمُجَادَلَةِ‏:‏ ‏(‏وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏)‏ وَالْآيَةُ الْأُخْرَى»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ أَعَدَّ اللَّهُ لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَوَلَّوُا الْيَهُودَ عَذَابًا فِي الْآخِرَةِ شَدِيدًا ‏{‏إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ فِي الدُّنْيَا بِغِشِّهِمُ الْمُسْلِمِينَ، وَنُصْحِهِمْ لِأَعْدَائِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ‏}‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً‏}‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ جَعَلُوا حِلْفَهُمْ وَأَيْمَانَهُمْ جُنَّةً يَسْتَجِنُّونَ بِهَا مِنَ الْقَتْلِ وَيَدْفَعُونَ بِهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَذَرَّارِيهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا أُطْلِعَ مِنْهُمْ عَلَى النِّفَاقِ، حَلَفُوا لِلْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْهُمْ ‏{‏فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ فَصَدُّوا بِأَيْمَانِهِمُ الَّتِي اتَّخَذُوهَا جُنَّةً الْمُؤْمِنِينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فِيهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَفَرَةُ، وَحُكْمُ اللَّهِ وَسَبِيلُهُ فِي أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْقَتْلُ، أَوْ أَخْذُ الْجِزْيَةِ، وَفِي عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ الْقَتْلُ، فَالْمُنَافِقُونَ يَصُدُّونَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فِيهِمْ بِأَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَإِنَّهُمْ مِنْهُمْ، فَيَحُولُونَ بِذَلِكَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قَتْلِهِمْ، وَيَمْتَنِعُونَ بِهِ مِمَّا يَمْتَنِعُ مِنْهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُذِلٌّ لَهُمْ فِي النَّارِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ لَنْ تُغْنِيَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْوَالُهُمْ، فَيَفْتَدُوا بِهَا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ الْمُهِينِ لَهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ، فَيَنْصُرُونَهُمْ وَيَسْتَنْقِذُونَهُمْ مِنَ اللَّهِ إِذَا عَاقَبَهُمْ ‏{‏أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ أَصْحَابُ النَّارِ، يَعْنِي‏:‏ أَهْلُهَا الَّذِينَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، يَقُولُ‏:‏ هُمْ فِي النَّارِ مَاكِثُونَ إِلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا، فَ ‏"‏يَوْم‏"‏ مِنْ صِلَةِ أَصْحَابِ النَّارِ‏.‏ وَعُنِيَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا‏}‏ مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً كَهَيْئَاتِهِمْ قَبْلَ مَمَاتِهِمْ، فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ كَاذِبِينَ مُبْطِلِينَ فِيهَا‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَيَحْلِفُونَ لَهُ‏}‏ قَالَ‏:‏ إِنَّ الْمُنَافِقَ حَلَفَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا حَلَفَ لِأَوْلِيَائِهِ فِي الدُّنْيَا‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الْآيَةَ، وَاللَّهِ، حَالَفَ الْمُنَافِقُونَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا حَالَفُوا أَوْلِيَاءَهُ فِي الدُّنْيَا‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ الْبَكْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ‏:‏ «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ظِلِّ حُجْرَةٍ قَدْ كَادَ يَقْلِصُ عَنْهُ الظِّلُّ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏إِنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ رَجُلٌ، أَوْ يَطْلُعُ رَجُلٌ بِعَيْنِ شَيْطَانٍ فَلَا تُكَلِّمُوه‏"‏ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ، فَاطَّلَعَ فَإِذَا رَجُلٌ أَزْرَقُ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ ‏"‏ عَلَامَ تَشْتُمُنِي أَنْتَ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ ‏"‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَذَهَبَ فَدَعَا أَصْحَابَهُ، فَحَلَفُوا مَا فَعَلُوا، فَنَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ‏}‏»‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ فِي أَيْمَانِهِمْ وَحَلِفِهِمْ بِاللَّهِ كَاذِبِينَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ، ‏{‏أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ‏}‏ فِيمَا يَحْلِفُونَ عَلَيْهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏‏.‏

يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ‏}‏ غَلَبَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ ‏{‏فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ‏}‏ يَعْنِي جُنْدَهُ وَأَتْبَاعَهُ ‏{‏أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ أَلَا إِنَّ جُنْدَ الشَّيْطَانِ وَأَتْبَاعَهُ هُمُ الْهَالِكُونَ الْمَغْبُونُونَ فِي صَفْقَتِهِمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ إِنِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي حُدُودِهِ، وَفِيمَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَرَائِضِهِ فَيُعَادُونَهُ‏.‏ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ يُعَادُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، بِنَحْوِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏ قَالَ‏:‏ يُعَادُونَ، يُشَاقُّونَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي أَهْلِ الذِّلَّةِ؛ لِأَنَّ الْغَلَبَةَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ‏}‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي‏}‏ يَقُولُ‏:‏ قَضَى اللَّهُ وَخَطَّ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي مَنْ حَادَّنِي وَشَاقَّنِي‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي‏}‏‏.‏ الْآيَةُ، قَالَ‏:‏ كَتَبَ اللَّهُ كِتَابًا وَأَمْضَاهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ذُو قُوَّةٍ وَقُدْرَةٍ عَلَى كُلٍّ مَنْ حَادَّهُ، وَرَسُولَهُ أَنْ يُهْلِكَهُ، ذُو عِزَّةٍ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْتَصِرَ مِنْهُ إِذَا هُوَ أَهْلَكَ وَلِيَّهُ، أَوْ عَاقَبَهُ، أَوْ أَصَابَهُ فِي نَفْسِهِ بِسُوءٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏

يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏ لَا تَجِدُ يَا مُحَمَّدُ قَوْمًا يُصَدِّقُونَ اللَّهَ، وَيُقِرُّونَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَشَاقَّهُمَا وَخَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ ‏{‏وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَلَوْ كَانَ الَّذِينَ حَادُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ آبَاءَهُمْ ‏{‏أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ‏}‏ وَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهَذِهِ الْآيَةِ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ‏}‏ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلِذَلِكَ تَوَلَّوُا الَّذِينَ تَوَلَّوْهُمْ مِنَ الْيَهُودِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏ لَا تَجِدُ يَا مُحَمَّدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏:‏ أَيْ مَنْ عَادَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ‏}‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ، أَوْ أَبْنَاءَهُمْ، أَوْ إِخْوَانَهُمْ، أَوْ عَشِيرَتَهُمْ، كَتَبَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ‏.‏ وَإِنَّمَا عُنِيَ بِذَلِكَ‏:‏ قَضَى لِقُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ، فَفِي بِمَعْنَى اللَّامِ، وَأَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ لَهُمْ، وَذَلِكَ لَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ بِالْقُلُوبِ، وَكَانَ مَعْلُومًا بِالْخَبَرِ عَنِ الْقُلُوبِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَهْلُهَا، اجْتَزَى بِذِكْرِهَا مِنْ ذِكْرِ أَهْلِهَا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَقَوَّاهُمْ بِبُرْهَانٍ مِنْهُ وَنُورٍ وَهُدًى ‏{‏وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَيُدْخِلُهُمْ بَسَاتِينَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا الْأَنْهَارُ ‏(‏خَالِدِينَ فِيهَا‏)‏ يَقُولُ‏:‏ مَاكِثِينَ فِيهَا أَبَدًا ‏(‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ‏)‏ بِطَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ فِي الدُّنْيَا ‏(‏وَرَضُوا عَنْهُ‏)‏ فِي الْآخِرَةِ بِإِدْخَالِهِ إِيَّاهُمُ الْجَنَّةَ ‏{‏أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَذِهِ صِفَتُهُمْ جُنْدُ اللَّهِ وَأَوْلِيَاؤُهُ ‏{‏أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ أَلَا إِنَّ جُنْدَ اللَّهِ وَأَوْلِيَاءَهُ ‏(‏هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ هُمُ الْبَاقُونَ الْمُنْجِحُونَ بِإِدْرَاكِهِمْ مَا طَلَبُوا، وَالْتَمَسُوا بِبَيْعَتَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَطَاعَتَهُمْ رَبَّهُمْ‏.‏

آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ